زياد عبدالله

ما عاد لبينوكيو أن يكون الممثل والمخرج الإيطالي روبرتو بنيني، بل أمسى في فيلم ماتيو غاروني والده أو خالقه جيبتو، كما أن هذه الدمية الخشبية فائقة الشهرة تخلّصت من الهزل والصخب والشغب، واختلاط العوالم وفوضاها، كما قدّمها بنيني كتابةً وإخراجاً وتمثيلاً عام 2002، وليس فيها أيضاً شيء من المرح الهوليوودي في فيلم التحريك الغنائي الذي قدمته ديزني عام 1940، إذ إن غاروني وفي آخر نسخة سينمائية إيطالية من رواية كارلو كولّودي (1826 – 1890)، يأخذها إلى معالجة سينمائية تختبر إمكانيات جديدة لهذا العمل الأدبي المعد أصلاً للأطفال.

يستمد فيلم "بينوكيو" Pinocchio  كما قدّمه ماتيو غاروني - عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي وبات يعرض جراء جائحة كورونا بعد نجاحه الجماهيري في صالات السينما الإيطالية على أمازون برايم - أهميته وتميزه من بين نسخ سينمائية كثيرة اقتبست الرواية من معالجتها سينمائياً بوصفها "رواية تأسيسية" كما يعتبرها أمبرتو ايكو، إذ إن غاروني يختبر الإمكانيات الكثيرة التي تتيحها على صعيد السيناريو الذي كتبه بالشراكة مع ماسينو سيكريني، فالأحداث مستقاة في أغلبها من رواية كولّودي، لكن يعاد ترتيبها في الفيلم، الذي يؤسس لدافع جيبتو (روبرتو بنيني) في صنع "دمية رائعة تجيد الرقص والمبارزة بالسيف والحركات البهلوانية، أجول بها العالم لأتكسّب منها." فنحن نرى جيبتو في اللقطة الافتتاحية يأكل الفتات المتناثر من قطعة خشبية يعمل عليها، فهو يتضور جوعاً، وليتضح الأمر أكثر فإنه يسعى إلى إقناع صاحب مطعم بضرورة إصلاح الكرسي والطاولة والباب رغم أنها سليمة تماماً، طمعاً بوجبة أو أي شيء يتكسبه! وليأتي الدافع من تلصصه على الدمى الخشبية في عربة المسرح الجوال الذي يعلن عن عروضه في القرية، كما أن الخشبة التي يُصنع منها بينوكيو، يحصل عليها من المعلم كرزة الذي يريد التخلص منها طالما أنها تتحرك وتتقافز في وجهه تكاد تصيبه بالجنون.


في ما تقدّم مثال على المعالجة طالما أن ظهور مسرح الدمى في الرواية يُترك للفصل التاسع، وليشكّل هرب بينوكيو من المدرسة في أول يوم له، وإقدامه على بيع  كتاب القراءة لقاء دخوله المسرح، منطلق مغامراته، حيث سيمضي ليلة مع إخوته وأخواته من الدمى، ويهبه صاحب المسرح الذي تحلّ عليه الطيبة كلما عطس، خمس ليرات ذهبية لوالده، ولتتوالى بعدئذٍ مقالب الثعلب والقط واحتيالهما عليه للاستيلاء على الليرات، وظهور الجنية ومعها الحلزونة، وتقلبات بينوكيو الكثيرة بما فيها تحوله إلى حمار، والتي تكون وفية أولاً وأخيراً  للمخيلة الكولودية التي تجعل الانعطافات والتغيرات غير متوقعة، كما يرد في العبارة الافتتاحية من الرواية التي تقول للقراء الصغار أن الأمر مغاير لما يتوقعون:  كان يا ما كان ... ملك! – سيقول فوراً قرّائي الصغار.لا، أيها الأولاد، لقد أخطأتم. كان يا ما كان، كان يوجد في قديم الزمان قطعة من الخشب".


وليحضر السؤال: ما هو المعادل البصري لما تقدّم؟ كيف لهذه المخيلة أن تطفو على سطح الشاشة؟ ولعل في الإجابة عن هذين السؤالين، إضاءة على أهمية صنيع غاروني، وقد وجد ضالته في "الغروتسك"، في خلق عالم تتجاور فيه الدمى مع الحيوانات الناطقة والكائنات السحرية، إلا أنها تقتسم مظهرين: نصف بشري – نصف دمية، نصف بشري – نصف حيوان،  بشري بالمجمل بملامح تشي بنوعه الحيواني، كما الكائنات "الغروتسكية"، كما هي في العمق شخصيات كولّودي، فبينوكيو دمية تأكل وتشرب وتنام وتحلم وتركض وتحزن وتفرح وتكذب وتندم، إلا أنها تسعى لتصير إنساناً من لحم ودم،  وعليه جسّد شخصية بينوكيو الممثل فيدريكو ايلابي لكن بمؤثر يجعله كائناً خشبياً، وكذا هما الثعلب والقط وكلاهما بشر في كل شيء إلا شاربيهما شارب ثعلب وشارب قط، وملامح الوجهين تتناغم والسمّوريات.


يستثمر الفيلم بوسائط الفرجة الأساسية: المسرح والسيرك، ليعزز من تجاور الكائنات، دمى متعددة الأعمار تتخلها التجاعيد وآثار العمر، صاحبها يتنافس طول قامته مع طول لحيته، وفي السيرك القزم بجانب العملاق، وبالتناغم مع ذلك تصاغ الأجواء في تنويعات تجعله فيلماً للصغار والكبار بالتأكيد، فيه ملامح من أجواء مرعبة إلا أنها غير مرعبة، بما يتيح أن نرى بينوكيو مشنوقاً على شجرة. وفيه ما هو كوميدي وساخر، وكل ما يجعله بعيداً عن وعظية العمل الأدبي، لكن مع وضوح العبرة في سياق القصة بوصفها عنصراً متداخلاً مع سردية الفيلم، فبينوكيو حين يكذب أمام القاضي لا يطول أنفه، فالكذب ضروري ومقبول أمام قاض يعاقب البريء ويعفي عن المذنب، وبالتالي يضطر بينوكيو إلى تلفيق إقدامه على سرقات لم يقترفها، الأمر الذي لا وجود له في الرواية، حيث يحكم عليه القاضي بالسجن لأربعة أشهر. 


ومن يعرف سينما غاروني، يدرك أنه قدّم أفلاماً منغمسة تماماً في الواقع الإيطالي مثل "غومورا" (جائزة لجنة التحكيم الخاصة - كان 2008) وهو مقتبس عن كتاب روبرتو سافيانو الذي يعرّي فيه المافيا في نابولي، وكذلك فيلمه "دوغمان" أو "مربي الكلاب" (جائزة أفضل ممثل لمارتشيلو فونتي – كان 2018)، لكنه ومع "بينوكيو" يستكمل انغماسه بالمتخيل والخرافي والأسطوري، وتخطي محددات الواقع، والانتصار لأمهات القصص، كما في فيلمه "حكاية الحكايات" (2015) المقتبس عن كتاب بالعنوان نفسه للكاتب الإيطالي جامباتيستا باسيلي (1566 – 1632) حيث على الملك أن يصطاد كائناً بحرياً أسطورياً لتحبل زوجته العاقر، بينما يتولى ملك آخر تربية برغوث كابنٍ له، ويقوم يتزويج ابنته إلى الغول، ونحو ذلك من تقديمه ثلاث قصص من قصص باسيلي الخارجة من حكايا القرن السادس عشر.


يبقى أن أذكر أن فيلماً جديداً سيتولى تقديم مغامرات بينوكيو مجدداً، وهذه المرة بتوقيع المخرج المكسيكي جييرمو دل تورو (صاحب "شكل الماء" – أوسكار أفضل فيلم 2018) وسيكون فيلم تحريك موسيقي، له أن يعرض على "نتفلكس" العام المقبل.

annaharar.com

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).